أولًا: مدخل عام

في ختام أعمال الورشة الفكرية–السياسية التي عقدها المجلس العربي في مقره بإسطنبول يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2025،
برئاسة الدكتور منصف المرزوقي رئيس المجلس والرئيس الأسبق للجمهورية التونسية، تحت عنوان: “مستقبل فلسطين والمنطقة بعد اتفاق السلام الأخير”
ناقش المشاركون من الخبراء والناشطين الفلسطينيين والعرب جملةً من القضايا المرتبطة بمستقبل القضية الفلسطينية، واستراتيجيات المقاومة، وتداعيات الاتفاق الأخير على فلسطين والمنطقة والنظام الدولي، وانتهوا إلى مجموعة من الخلاصات والتوصيات التالية.

ثانيًا: أهم الخلاصات العامة حول المرحلة الراهنة

1.الوضع في غزة وفلسطين

•غزة تعيش حالة تدمير شامل وإبادة جماعية، مع آثار نفسية واجتماعية عميقة على الشعب الفلسطيني.
•الصراع القائم ليس جولة عابرة، بل محطة في مسار طويل مرشح لجولات أخرى قد تكون أشدّ كلفة على الجميع.
•رغم الكارثة الإنسانية، أعادت المقاومة الفلسطينية القضية إلى قلب المشهد العالمي بعد أن كانت على هامش الأجندة الدولية.

2.صورة الاحتلال والكيان الصهيوني

•فقد الاحتلال الكثير من رصيده وصورته أمام الرأي العام العالمي، وتآكلت سرديته عن “الدفاع عن النفس”.
•باتت إسرائيل مهدَّدة قانونيًا وأخلاقيًا بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، مع ملاحقات أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

3.الأمة في مأزق تاريخي

•تمر الأمة العربية والإسلامية بـ أزمة بنيوية على مستوى الأنظمة والقيادات والمؤسسات، مع غياب مشروع عربي جامع.
•هناك شعور عام بـ الخذلان الرسمي مقابل حيوية لافتة في الشارع والحركات الشعبية والنخب.

4.تحولات دولية وإقليمية عميقة

•ما يجري يُقرأ كسعي لإعادة تشكيل المنطقة في إطار “صفقة كبرى” أو “صفقة قرن مُعدّلة”، عنوانها: تصفية القضية الفلسطينية تدريجيًا وتحويلها من قضية تحرر وحقوق سياسية إلى “ملف إنساني–أمني”.
•الاتفاق الأخير، وما سبقه من قرارات دولية (ومنها قرارات لمجلس الأمن تخص غزة وإدارتها بعد الحرب)، يُخشى أن يؤسس لوضعٍ شبيه بالتجارب السورية واللبنانية من حيث الوصاية الدولية وتقاسم الأدوار.

ثالثًا: المقاومة الفلسطينية واستراتيجياتها

1.ضرورة إعادة تقييم مفهوم المقاومة

•المقاومة حق شرعي وطبيعي للشعوب تحت الاحتلال، لكنها تحتاج إلى مراجعة عميقة لأدواتها وخطابها وبناها التنظيمية.
•المقاومة الفصائلية أو الطائفية وحدها غير قادرة على تحقيق النصر أو الاستدامة، بينما المقاومة الوطنية الجامعة هي الأقدر على الصمود والتراكم.

2.المقاومة الوطنية الشاملة

•المطلوب تطوير نموذج مقاومة يرتكز على:
•وحدة الشعب الفلسطيني بكل مكوناته.
•توازن بين المقاومة المسلحة والسياسية.
•إطار سياسي جامع يحصّن الفعل العسكري ويُحسن توظيف إنجازاته.

3.البعد الوحدوي وتجاوز الاستقطاب المذهبي

•لا يجوز تحويل المقاومة إلى ساحة صراع سني–شيعي أو عربي–إيراني، بل يجب أن تبقى بوصلتها فلسطين والقدس.
•القوى التي تدعم المقاومة (من دول وحركات) يجب أن توضع في إطار مشروع تحرر وطني وقومي، لا في إطار محاور طائفية أو صراعات جانبية تعيد إنتاج التفتيت.

4.استثمار إنجازات المقاومة سياسيًا وإعلاميًا

•ما تحقق من مكاسب معنوية وإعلامية يجب ألّا يُهدر، بل يُترجم إلى:
•مبادرات سياسية وقانونية ودبلوماسية.
•خطاب موحد يعيد تعريف القضية باعتبارها قضية تحرر من استعمار عنصري لا مجرد نزاع حدودي.

رابعًا: الوضع الفلسطيني الداخلي

1.أزمة القيادة والمؤسسات

•هناك انهيار أو ضعف شديد في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية التقليدية، وغياب مرجعية سياسية موحدة.
•وُصفت السلطة الحالية بأنها أقرب إلى “دكانة” منها إلى مؤسسة تمثيلية، في ظل أزمة شرعية عميقة ومؤسسات معطلة.

2.الحاجة إلى إعادة بناء البيت الفلسطيني

•ضرورة إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها على أسس:
•ديموقراطية وتمثيلية حقيقية.
•تجديد القيادة والنخبة السياسية.
•فصل حقيقي بين الوظيفة الأمنية والتزامات أوسلو وبين مهمة التحرر الوطني.

3.جيل جديد ووعي جديد

•برز “جيل الأقصى” أو “جيل الوعي” الذي يملك أدوات التواصل والتأثير، ويعيد تعريف العلاقة بين الداخل والشتات.
•هذا الجيل يجب احتضانه سياسيًا وتنظيميًا، بدل التعامل معه كجمهور تعبئة ظرفية.

خامسًا: الموقف العربي – الرسمي والشعبي

1.الموقف الرسمي العربي

•غالبية الأنظمة العربية تميل إلى تطبيع العلاقة مع الاحتلال، أو استخدام الملف الفلسطيني كورقة تفاوضية مع القوى الكبرى.
•المشاركة العربية/الإسلامية في قرارات دولية ملتبسة (ومنها قرارات مجلس الأمن ذات البعد الإداري/الأمني على غزة) يُنظر إليها كإضعاف للموقف الفلسطيني وغطاء لتصفية تدريجية للقضية.

2.الموقف الشعبي العربي والإسلامي

•في المقابل، أظهرت الشعوب العربية والإسلامية حيوية لافتة في الشارع، وحراكات جماهيرية ضخمة فرضت نفسها على الساحة الدولية.
•دور الشعوب لم يعد رمزيًا؛ بل بات قادرًا على التأثير في سياسات دول كبرى، خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.

3.الحاجة إلى مشروع عربي–إسلامي مشترك

•التحديات الراهنة تتجاوز القدرة الفلسطينية منفردة، وتتطلب:
•مشروعًا قوميًّا عربيًا يعيد تعريف الأمن القومي على قاعدة مركزية فلسطين.
•أطر تنسيق بين القوى الحية، خارج وصاية الأنظمة الرسمية.

سادسًا: البعد الدولي والقانوني

1.القرارات الدولية الأخيرة

•أشار المتحدثون إلى قرارات دولية (منها قرارات حديثة لمجلس الأمن) تُهدد بجعل غزة تحت نوع من الوصاية أو الإدارة الدولية، في سابقة تمسّ جوهر حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
•هذه القرارات قد تفتح الباب أمام شرعنة السيطرة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الأرض الفلسطينية، مع تحويل القضية إلى ملف “إغاثة وإدارة أزمات”.

2.القانون الدولي كمساحة صراع

•هناك إمكانية لاستثمار:
•مبدأ الولاية القضائية العالمية في دول أوروبية لملاحقة المرتكبين (ومنهم مئات حاملي الجنسيات الأوروبية الذين شاركوا في جرائم الإبادة).
•قرارات وتصنيفات سابقة للحركة الصهيونية كحركة عنصرية، والبناء عليها لاستعادة هذا الوصف وتجديده قانونيًا وأخلاقيًا.

3.ضعف آليات العقاب الدولي

•حتى الآن، لم يُحاسَب مسؤول إسرائيلي واحد بشكل جدي، ما يعكس غياب الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى.
•مع ذلك، تزايدت مساحات العمل القانوني والشعبي، ويمكن تحويلها إلى أداة استنزاف شرعية وسياسية ضد الاحتلال.

سابعًا: الإعلام، السردية، والدبلوماسية الشعبية

1.انقلاب في السردية العالمية

•تحوّل الخطاب الإعلامي العالمي من تصوير الفلسطيني كـ”مشكلة أمنية” إلى ضحية إبادة واستعمار عنصري.
•برز دور المثقفين والفنانين والمؤثرين والمرشحين السياسيين في أمريكا وأوروبا الذين تبنّوا خطابًا واضحًا في إدانة جرائم الاحتلال.

2.الدبلوماسية الشعبية والعلاقات العامة

•طُرحت أهمية الدبلوماسية الشعبية والبرلمانية، وزيارات القيادات والنخب العربية إلى العواصم الغربية لبناء تحالفات مع برلمانات ومراكز أبحاث ومنظمات مجتمع مدني.
•التأكيد على أن التواصل مع الشعوب والرأي العام لم يعد ترفًا، بل ساحة حاسمة في الصراع.

3.استثمار وسائل التواصل وجيل المؤثرين

•المؤثرون (Influencers) على شبكات التواصل يملكون اليوم قوة تأثير تضاهي المحطات التلفزيونية الكبرى.
•يجب تنظيم حملات رقمية ممنهجة، واستثمار لحظات “الضباب المعلوماتي” في زمن الحروب لإيصال الرواية الفلسطينية.

4.مواجهة حملات التشويه والاستفزاز

•التحذير من أعمال مدبّرة تهدف لتشويه صورة العرب والمسلمين في الغرب، مع الدعوة لتوعية العلماء ورجال الدين والجاليات، لتفويت الفرصة على الاستفزازات.

ثامنًا: البعد الإقليمي والمشروع القومي

1.فلسطين كبوصلة لمشروع الأمة

•التأكيد أن فلسطين ليست ملفًا معزولًا، بل قضية مركزية في مشروع تحرر الأمة من الهيمنة الخارجية منذ ما قبل قيام الكيان.
•استحضار تاريخ محاولات مبكرة (منذ هرتزل) للسيطرة على سيناء ومصر والمنطقة، بما يوضح أن المخطط أوسع من “دولة على جزء من فلسطين”.

2.رفض تفكيك الأولويات لصالح صراعات جانبية

•التحذير من تحويل الاهتمام إلى صراعات ثانوية (إيران، السودان… إلخ) بطريقة تُضعف البوصلة الأساسية: فلسطين.
•الدعوة إلى التعامل العقلاني مع الخلافات مع دول وقوى إقليمية، ورفض الانجرار إلى حروب طائفية تخدم المشروع الصهيوني.

3.أهمية تجميع القوى المخلصة في مشروع واحد

•الحاجة إلى تجميع المبادرات والحملات والهيئات في مشروع طويل الأمد، يقوده مركز أو مجلس يتبنى رؤية استراتيجية تتجاوز ردود الفعل، وتضع خطة عمل لعشر سنوات على الأقل.

تاسعًا: المخرجات والتوصيات العملية

1. على المستوى الفلسطيني الداخلي

1.الدعوة إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات التمثيل الوطني على قاعدة ديموقراطية وتشاركية، وإجراء انتخابات حقيقية حيثما أمكن.
2.تشكيل قيادة وطنية موحدة للمقاومة، تنسّق بين الفصائل وتعطي أولوية لوحدة الصف والأرض والشعب.
3.مراجعة الخيارات السياسية السابقة، وطيّ صفحة “التنسيق الأمني” وكل ما يقيّد مشروع التحرر.
4.الاستثمار في جيل الوعي الجديد، وإشراك الشباب والمرأة والشتات في صنع القرار السياسي والبرامجي.

2. على مستوى المقاومة واستراتيجيتها

1.تطوير استراتيجية مقاومة وطنية شاملة تجمع بين:
•المقاومة الشعبية والجماهيرية.
•المقاومة المسلحة المنضبطة.
•العمل السياسي–الدبلوماسي–القانوني.
2.تجنب تحويل المقاومة إلى ملف طائفي أو فئوي، وإبقائها تحت سقف مشروع تحرر وطني وقومي.
3.بناء شبكات حماية قانونية وإعلامية لقادة المقاومة والداعمين لها، والتصدي لمحاولات تجريمهم دوليًا.

3. على المستوى العربي والإسلامي

1.بلورة مشروع عربي–إسلامي مشترك يجعل من فلسطين محورًا للأمن القومي العربي والإسلامي.
2.دعوة القوى الحية (أحزاب، نقابات، حركات اجتماعية، اتحادات مهنية) لتشكيل جبهة شعبية عربية–إسلامية من أجل فلسطين.
3.وقف كل أشكال التطبيع مع الاحتلال، ومراجعة الاتفاقيات القائمة، وخاصة تلك التي تمنحه تفوقًا اقتصاديًا وأمنيًا.
4.الحفاظ على حد أدنى من التضامن الرسمي العربي، ورفض منح أي غطاء سياسي أو قانوني لمشاريع تصفية القضية أو تدويل غزة.

4. على المستوى الدولي والقانوني

1.توحيد الجهود القانونية لملاحقة مرتكبي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، مستفيدين من الولاية القضائية العالمية في دول أوروبا وغيرها.
2.دعم مبادرات تهدف إلى:
•تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة أو تجميدها.
•الاعتراف بالحركة الصهيونية كحركة عنصرية استيطانية.
3.إنشاء مرصد قانوني–حقوقي عربي–دولي لتوثيق الجرائم، وتزويد المحاكم والمنظمات الدولية بالملفات اللازمة.

5. على المستوى الإعلامي والدبلوماسية الشعبية

1.إطلاق حملة إعلامية استراتيجية طويلة المدى تعيد صياغة السردية الفلسطينية، وتخاطب الجماهير بلغاتها وثقافاتها المختلفة.
2.تنظيم جولات لقيادات عربية وفلسطينية إلى العواصم المؤثرة (واشنطن، بروكسل، لندن، برلين…) للضغط من داخل البرلمان، ومراكز التفكير، والجامعات.
3.بناء شبكة من المؤثرين والإعلاميين والفنانين حول العالم، للترويج لخطاب حقوقي–إنساني–تحرري حول فلسطين.
4.إعداد دليل عمل للإعلاميين والنشطاء يحدد الرسائل الأساسية، والمصطلحات، وخطوط الاشتباك مع الدعاية الصهيونية.

6. على المستوى الإنساني والإغاثي

1.إعطاء أولوية عاجلة لـ الإغاثة وإعادة الإعمار في غزة، من خلال:
•حملات تبرع منسقة.
•ضغط سياسي لفتح ممرات إنسانية مستقرة.
2.دعم صمود الفلسطينيين على الأرض بتوفير مقومات الحياة (سكن، صحة، تعليم، عمل) لقطع الطريق على مشاريع التهجير القسري.

7. دور المجلس العربي

1.أن يواصل المجلس العربي عقد ورش عمل ومؤتمرات دورية لمتابعة تطورات القضية، وتحويل هذه التوصيات إلى خطط عمل محددة.
2.تشكيل لجنة متابعة من بين المشاركين في الورشة لصياغة برنامج عمل خلال عام واحد، يتضمن:
•مسار قانوني.
•مسار إعلامي–دبلوماسي.
•مسار شعبي–حركي.
3.التنسيق مع شبكات عربية وإسلامية وعالمية تشاركه الرؤية، لبناء تحالف واسع من أجل فلسطين والعدالة في المنطقة.

‎عاشرًا: الخاتمة

أكد المشاركون أن ما بعد الاتفاق الأخير لن يكون كما قبله؛ فإما أن يتحول إلى محطة تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، وإما – إذا حَسُن استثمار هذه اللحظة – إلى بداية تشكل جديد لمشروع تحرر عربي–فلسطيني أكثر وعيًا ونضجًا وتنظيمًا.
ورأت الورشة أن المقاومة ليست عبئًا على الأمة، بل هي عنوان كرامتها، وأن واجب المرحلة هو تحويل تضحيات الشعب الفلسطيني إلى مشروع تاريخي للتحرر والنهضة، لا إلى جرح آخر يُترك للنسيان.
ورشة مستقبل فلسطين | المجلس العربي

ورشة مستقبل فلسطين | المجلس العربي

ورشة مستقبل فلسطين | المجلس العربي

ورشة مستقبل فلسطين | المجلس العربي

ورشة مستقبل فلسطين | المجلس العربي

ورشة مستقبل فلسطين | المجلس العربي

التقرير:

مخرجات ورشة العمل الحقوقية “ما بعد الدمار_ نحو خريطة طريق للعدالة الدولية في فلسطين”

Share