محمد نبيل بنعبد الله | الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية المغربي

سُررتُ بدعوتي إلى الانخراط في وثيقة “العهد الديموقراطي العربي”، ويَطيبُ لي أن أُعرب عن تثميني لهذه المبادرة الإيجابية للمجلس العربي، والتي أعتبرها قيمةً مُضافة هامة. كما يُسعدُني أن أعبِّر عن تفاعُلي الشخصي بخصوصها، من منطلقِ انتمائي واصطفافي منذ نشأتي السياسية، وعلى مدى عقودٍ من النضال، في صفِّ الوطنية والوطنيين، وفي صفِّ الديموقراطية والديموقراطيين، وفي صف التقدم والتقدميين، مؤمناً ومدافعاً، على أساس ذلك، عن كافة القضايا العادلة للشعوب، وفي طليعتها قضايا الشعوب العربية، وفي مقدمة كُلِّ ذلك أمُّ قضايانا: القضية الفلسطينية العادلة والمشروعة.

ثُمَّ بِوُدِّي القولُ، تفاعُلاً مع وثيقة العهد الديموقراطي العربي، ولأنَّ الشكل لا ينفصل عن الموضوع: إنَّ “عالــــمَـــنا” الذي نُطلقُ عليه عادةً نَــــعْــــتَ “العربي”، يتعين، من منطلق الموضوعية العِلمية والتاريخية والثقافية، عدمُ إغفال أنَّ عدداً من بلدانه متعددةٌ مكوناتُهُ الثقافية ومُقومات هوياته الوطنية، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب حيث تنصهرُ المكوناتُ الموحَّدَة: العربية، الإسلامية، الأمازيغية، والصحراوية الحسانية، الغنية بالروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
من جهة أخرى، يذهبُ اعتقادي إلى كون هذه الوثيقة تكتسي أهمية بالغةً وخاصة في المرحلة التاريخية التي يَعبُرُها، اليوم، مُحيطُنا “العربي”، حيثُ رهانُ بناء الديموقراطية لتحقيق “الانتقالات الديموقراطية” في أوطاننا هو رهانٌ مشترك، بكل تأكيد، حتى وإن تباينت تجاربُ ومساراتُ وأوضاعُ بلداننا على هذا المستوى، بما يؤكد أنَّ الطريق نحو الديموقراطية ليس وحيداً، وأنَّ شَكْلَ الديموقراطية ونظامَهَا ليس نَمَطياًّ كما يريد أن يُسَوِّقَ “الغربُ الرأسمالي” الذي برهن على أنه ليس أهْـــلاً على العموم لإعطاء الدروس في هذا الباب، ولا في حقوق الإنسان، بدليل كَيْلِهِ بمكياليْن حينما يتعلق الأمر مثلاً وأساساً بالحقوق الفلسطينية، وبحرب الإبادة التي يتعرض لها الشعبُ الفلسطيني الأعزل من قِبل آلة البطش للكيان الصهيوني.

إن تبايُنَ التجارب والمسارات والتراكمات التاريخية للبلدان العربية، وتفاوُت الخِبرات المجتمعية المرتبطة بالتراث التعددي والديموقراطي، رغم القواسم المشتركة الكثيرة، هو الذي أفضى إلى اختلاف وتفاوُتِ مآلات “الحراك الشبابي/الربيع العربي”. لكن، مع ذلك وإجمالاً، يمكن القول إن هذا “الحراك العربي” لم يُؤَدِّ إلى تحولاتٍ ديموقراطية كبرى لأسباب متعددة، من أبرزها: الاختلافُ الكبير في التعامُل والتجاوُب الرسمييْن في كل بلدٍ مع تلك الحراكات ومطالبها؛ الأطماع والتدخلات الخارجية، بصور شتى، في أكثر من بلدٍ عربي؛ عدم الجاهزية الكاملة أو غياب أو هشاشة أو عدم وضوح البدائل؛ الإضعاف الموضوعي أو الضُعف الذاتي وتشتت جهود القوى الديموقراطية في البلدان المعنية ومحدودية النضال المشترك؛ …. إلخ. لكن مع كل ذلك يتعين الإقرار بأن من حَسَنات الحراكات العربية أنها حرَّكَت كثيراً من المياه الراكدة في عددٍ من البلدان، وفتحت إمكانيات وآفاق إصلاحية واعدة، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب حيث تمت بلورةُ دستورٍ جديد ومتقدم لا تزالُ مطروحةٌ ضرورة تفعيله الأمثل، سواء على مستوى منطوقة أو على مستوى روحه، في واقع الممارسة.

في نفس الوقت، ينبغي علينا، كديموقراطيين، أن ننتبه إلى أنَّ “الديموقراطية التمثيلية”، وإن كان ليس هناك بديلٌ عنها، فهي تعيشُ صعوباتٍ حقيقيةً على الصعيد العالمي، مما يُفَسِّر عدداً من المظاهر السلبية، التي تجسِّدُ تحديات حقيقية أمام الديموقراطية والديموقراطيين عبر كل رُبوع العالَم، من قبيل تنامي الشعبوية والعنصرية والصعود المتواتر لليمين المتطرف؛ وتزايُد أشكال الاستبداد الرأسمالي والتغول الإمبريالي بأشكال مختلفة ومتعددة.
من جانبٍ آخر، فهذه الوثيقة الإطارية من شأنها تجميعُ جهود القوى والفعاليات الديموقراطية ب “العالم العربي”، يساريين وليبراليين وقوميين، حول رؤى مشتركة ومتقاطعة، لكنها أيضاً من شأنها أن تُوفِّر لنا جميعاً فضاءً للحوار والنقاش والتبادل والاستفادة المتبادلة والاستلهامية من الإيجابيات كما من الأخطاء، بغاية تقوية قدراتنا على رفع التحديات الخاصة والمشتركة للبناء الديموقراطي في بلداننا.

هذا مع التأكيد، مرة أخرى، على أنَّ الطريق نحو الديموقراطية ليس واحداً، بكل تأكيد، كما أن الديموقراطية ليست فقط مجرد هندسة دستورية وقانونية ومؤسساتية للدولة، بقدر ما هي أيضاً تربية وتنشئة وثقافة مجتمعية، وهي ممارسة للفاعلين في الميدان. كما أن معركة بناء الديموقراطية يتعين النظرُ إليها وخَوْضُها ليس فقط في المجال السياسي (فصل السلط، الانتخابات الحرة والنزيهة لتجسيد سيادة الشعوب، المشاركة العارمة للشباب والمثقفين في الحياة العامة، مكافحة الفساد)، وهو مجال على قدرٍ كبير من الأهمية، بل أيضاً في مجال العدالة الاجتماعية والتوزيع المنصِف للخيرات وتحقيق كرامة الإنسان وتحرير طاقته الإبداعية وقدرته على المبادرة؛ وفي مجال المساواة بين النساء والرجال؛ وفي مجال حقوق الإنسان وتوسع فضاء الحريات الفردية والجماعية بما في ذلك حرية الرأي والتعبير؛ وفي مجال السيادة الاقتصادية لأوطاننا وتحقيق النماء الاقتصادي وبناء الآلة الإنتاجية القوية والمقاولة الوطنية الفعالة والمسؤولة.

في الأخير، إن الانخراط في هذه المبادرة وفي هذه الوثيقة هو تجديدٌ وتأكيدٌ للالتزام بالمعركة من أجل الديموقراطية، لكنه كذلك التزامٌ بمواصلة السعي نحو توطيد التحرر الوطني لبلداننا، وتعزيز سيادتها، وحماية هذه السيادة من أيِّ انشطاراتٍ مقيتة أو نزوعاتٍ تمسُّ بالوحدة الترابية لكل وطنٍ من أوطاننا، ومن أي تدخلات وأطماع خارجية هدفها الأول استغلالُ خيرات ومقدَّرات شعوبنا وأوطاننا.. إن معركتنا من أجل الديموقراطية هي وجهٌ من أوجُهِ استمرار معركة توطيد الاستقلال ومكافحة التبعية مهما كان مصدرُها ومهما تكن طبيعتُها.

Share