مقدمة:
شهد العالم العربي مع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين حراكًا سياسيًا واجتماعيًا غير مسبوق، تمثّل في سلسلة من الانتفاضات الشعبية كما يراها البعض أو ثورات عند العض الآخر وقد عُرفت إعلاميًا بـ”الربيع العربي”. وقد أثار هذا الحراك في بداياته آمالًا واسعة لدى قطاعات اجتماعية وسياسية عدّة بإمكانية تدشين مرحلة جديدة قوامها التحول الديمقراطي، والمساءلة، والحكم الرشيد. غير أن المسارات التي اتخذتها تلك الانتفاضات، والنتائج التي خلصت إليها بعد أكثر من عقد، كشفت عن واقع معقد يتسم بالارتداد إلى أنماط سلطوية جديدة، وعن أزمة بنيوية عميقة في منظومة الحكم والإدارة في العديد من دول المنطقة.
ينطلق هذا المقال من فرضية مفادها أن أزمة الديمقراطية في المنطقة لا يمكن فصلها عن السياقين الدولي والاقتصادي الراهنين، وأن فهم تعثر مسار التحول الديمقراطي يقتضي تحليلاً متكاملًا للعوامل البنيوية الداخلية ( مثل وجود الدولة العميقة التي سعت الى العمل على الثورة المضادة ) والتدخلات الخارجية ( مثل دور الإمارات و السعودية ومصر و الجزائر في تونس)، فضلًا عن إدراك محدودية النماذج المستنسخة في بيئات غير مهيأة ثقافيًا ومؤسساتيًا.
أولاً: إخفاق الربيع العربي ومسارات الردّة السلطوية
كشفت تجارب الربيع العربي عن هشاشة البُنى المؤسسية وغياب النخب السياسية القادرة على إدارة الانتقال الديمقراطي. ففي دول مثل سوريا واليمن وليبيا، أدت الانتفاضات إلى حروب أهلية وانهيارات أمنية عميقة، بينما شهدت مصر انقلابًا على المسار الانتخابي أعاد إنتاج السلطوية بأدوات جديدة. أما تونس، التي كانت تُقدّم بوصفها الاستثناء الديمقراطي الوحيد، فقد عرفت بدورها انحرافًا عن المسار الدستوري بعد سنوات من التعثر السياسي والصراعات النخبوية وتغليب الشأن السياسي على الشأن الاقتصادي استجابة لتطلعات المواطن.
لقد شكّل هذا الإخفاق العام تربة خصبة لعودة أنظمة استبدادية تستند إلى شرعيات الأمر الواقع، وتتغذى على خطاب يتبنى أولوية الاستقرار ويُشيطن الحريات ( في تونس سعى الاعلام إلى تسمية التجربة بالعشيرة السوداء )، في ظل غياب مقاومة شعبية واسعة قادرة على حماية المكاسب الديمقراطية .وبما أن الاعلام استعمل كإحدى أدوات الهدم لهذه التجربة فإنه سعى الى خلق رأي عام يشيطن التجربة و يسعى الى اقناع المواطن بأن الديمقراطية لم تأت بالخبز ولم تغير من واقعه شيئا.
ثانياً: التحولات الدولية وتراجع الالتزام بالديمقراطية كقيمة كونية
يُعد السياق الدولي أحد العوامل المفسّرة لفشل الانتقالات الديمقراطية في المنطقة، حيث تراجع الاهتمام العالمي بقيم الديمقراطية لصالح أولويات جيوسياسية واستراتيجية. وقد ساهم انكفاء القوى الغربية، وانشغالها بأزمات كبرى مثل الحرب في أوكرانيا، والتوترات مع الصين، في إضعاف الضغط الدولي على الأنظمة السلطوية بل لعلها مستفيدة من بقاء الاستبداد لمزيد من السيطرة والتحكم .
في المقابل، صعدت قوى دولية ذات أنظمة غير ديمقراطية تطرح نماذج للحكم تقوم على التنمية الاقتصادية دون انفتاح سياسي، ما وفر لأنظمة عربية عديدة مظلةً جديدة للتحرر من الالتزامات الحقوقية. كما أن ما يمكن تسميته بـ”المستعمرين الجدد” – من قوى وشركات عابرة للقارات – وجدوا في استمرار الاستبداد وسيلة للحفاظ على مصالحهم، إذ إن الديمقراطية تُهدّد منطق الهيمنة الثقافية والاقتصادية وتُحرّر الإرادات الوطنية من التبعية.
ثالثاً: الأزمة الاقتصادية وتقويض الحاضنة المجتمعية للديمقراطية
تُعد الأزمة الاقتصادية أحد أبرز التحديات التي عطّلت مسارات الانتقال الديمقراطي. فقد أدت تداعيات جائحة كوفيد-19، ثم الحرب في أوكرانيا، إلى تفاقم أوضاع اقتصادية هشّة أصلًا في أغلب دول المنطقة. وتسببت هذه الأوضاع في ارتفاع معدلات البطالة، وتآكل الطبقات الوسطى، وتراجع الخدمات العامة.
في ظل هذه الأزمات، أصبح الخطاب السلطوي القائم على أولوية الأمن والاستقرار الاقتصادي أكثر جاذبية لكثير من الفئات الشعبية التي لم تلمس تحسنًا فعليًا خلال فترات الانفتاح السياسي القصيرة. بل إن شريحة واسعة من المواطنين باتت ترى في الديمقراطية مشروعًا نخبويًا تتصارع فيه الاحزاب للتموقع و لم يُترجم إلى تحسين ملموس في شروط الحياة اليومية، ما أدى إلى فتور شعبي تجاه الدفاع عنها عند كل انتكاسة، وفتح المجال أمام عودة أنظمة استبدادية بأقل كلفة سياسية ممكنة.
رابعاً: الديمقراطية كتربية ثقافية لا كمجرد مشروع سياسي
من الدروس الأساسية التي كشفتها انتكاسات الربيع العربي أن الديمقراطية ليست مجرد بنية مؤسسية أو آليات إجرائية، بل هي قبل كل شيء تربية ثقافية وممارسة اجتماعية. فغياب العقلية الديمقراطية، وضعف الثقافة المدنية، وانعدام تقاليد الحوار وقبول الآخر، كلّها عوامل تُفرغ المشروع الديمقراطي من مضمونه وتحوّله إلى بناء هشّ قابل للانهيار.
إن تأسيس ديمقراطية مستدامة يقتضي عملًا طويل المدى على مستوى التربية والتعليم والإعلام، وتعزيز قيم المواطنة والمشاركة والاختلاف. كما أن استنساخ النماذج الغربية دون مراعاة للسياقات المحلية، كثيرًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية تُغذي الإحباط وتُبرر العودة إلى التسلط باسم الخصوصية أو الأمن.
خاتمة:
إن التحولات السياسية التي شهدها العالم العربي خلال العقد الأخير تُبرز أن الثورات ليست لحظات مفصلية تُحدث التغيير دفعة واحدة، بل هي مسارات تاريخية معقّدة تتطلب الصبر، والتراكم، والاستفادة من أخطاء التجارب السابقة. كما أن إنجاح أي مسار ديمقراطي لا يمكن أن يتم بمعزل عن إدراك خصوصيات كل بلد، والاشتغال العميق على البنى التحتية السياسية والثقافية والاجتماعية.
وفي مواجهة تواطؤ الأنظمة المحلية مع مصالح قوى الهيمنة الدولية، لا سيما تلك التي ترى في فشل الديمقراطية ضمانًا لاستمرار التبعية الاقتصادية والثقافية، فإن المشروع الديمقراطي يظل رهينًا بقدرة الشعوب على إعادة امتلاك الفضاء العمومي، واستعادة المبادرة التاريخية لبناء دول عادلة، حرة، وذات سيادة.
إن الديمقراطية، في نهاية المطاف، ليست خيارًا مؤقتًا أو أداة ظرفية، بل هي أفق حضاري تتجدد ضرورته مع كل أزمة، وتتأكد حتميته مع كل انغلاق سياسي أو انهيار اجتماعي.
سهام بادي | سياسية تونسية