في ظل التحولات العاصفة التي يشهدها العالم العربي، ومع استمرار تعثر مسار الديمقراطية وتصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية، تبرز “وثيقة العهد الديمقراطي العربي” كخطوة جريئة نحو بلورة مشروع تحرري شامل، يسعى إلى تجاوز عقبات الاستبداد والتبعية والفساد. الوثيقة ليست مجرد بيان سياسي، بل هي إعلان نضالي يرسم ملامح مستقبل ديمقراطي تسوده الحرية والعدالة والمواطنة.
الصراع التاريخي من أجل الديمقراطية
تطرح الوثيقة تصورًا شموليًا للصراع التاريخي الذي خاضته البشرية، والذي مرّ بأربعة مراحل أساسية: تحرير الأفراد من العبودية، ثم تحرير المرأة من الإيديولوجيا الذكورية، يليه تحرير الشعوب من الاستعمار، وأخيرًا النضال ضد الاستبداد الداخلي. ترى الوثيقة أن الديمقراطية هي المحطة الأخيرة في هذا المسار، حيث تمثل جوهر الصراع من أجل كرامة الإنسان العربي وحقوقه.
الاستبداد كعدو مشترك
ترفض الوثيقة الاستبداد بكافة أشكاله، وتصفه بأنه ليس مجرد قمع سياسي، بل منظومة تقوم على إذلال الأفراد وتحويلهم إلى رعايا خاضعين، يفتقرون إلى الحس بالمواطنة الحقيقية. من خلال أدواته القمعية، من عنف وتضليل إعلامي وانتخابات صورية، يستمر الاستبداد في فرض هيمنته، مما يعمّق أزمات المجتمع ويعزز ثقافة الخضوع. في المقابل، تطرح الوثيقة الديمقراطية كعملية تحرير شاملة، ليست فقط في بناء نظام سياسي جديد، وإنما أيضًا في إعادة تشكيل وعي المواطن العربي ليصبح فاعلًا في مجتمعه.
الديمقراطية كأداة للتحرر والسيادة
تؤكد الوثيقة أن الديمقراطية ليست فقط وسيلة للحكم الرشيد، بل هي أداة تحرر من الاستعمار الجديد الذي يتجلى في التبعية السياسية والاقتصادية لأنظمة خارجية تستغل النظم الاستبدادية العربية لضمان نفوذها. كما تشدد على ضرورة بناء دول ذات سيادة حقيقية، تقطع مع ممارسات الفساد والاستغلال، وتضع ثروات شعوبها في خدمة التنمية بدلًا من أن تكون رهينة لأطماع القوى الخارجية.
العدالة الاجتماعية كركيزة للديمقراطية
لا تتبنى الوثيقة الديمقراطية في شكلها الليبرالي الغربي القائم على الحريات الفردية فقط، بل تدعو إلى نموذج ديمقراطي اجتماعي، يجعل العدالة في توزيع الثروة والفرص أساسًا للحكم. فالتجارب العربية أظهرت أن الديمقراطية الشكلية التي لا تترافق مع تحسين واقع الناس المعيشي تبقى هشة وغير قادرة على كسب التأييد الشعبي.
التضامن العربي والديمقراطية كمشروع وحدوي
تربط الوثيقة بين الديمقراطية وبين ضرورة بناء فضاء عربي موحّد، قادر على الدفاع عن قضاياه العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. فالتشرذم العربي الحالي، وفقًا للوثيقة، هو نتاج طبيعي للاستبداد الذي يغذي الانقسامات ولا يسمح بنشوء تعاون حقيقي بين الدول العربية. ومن هذا المنطلق، تدعو الوثيقة إلى وحدة ديمقراطية عربية، على غرار الاتحاد الأوروبي، تكون قائمة على إرادة الشعوب الحرة وليس على المصالح الضيقة للأنظمة الحاكمة.
رفض الخلط بين الديمقراطية الغربية والسياسات الاستعمارية
تشير الوثيقة إلى ضرورة التمييز بين الأنظمة الغربية التي تدعم الصهيونية والاستبداد، وبين الديمقراطية كقيم ومبادئ إنسانية. إذ تؤكد على أن الديمقراطية ليست منتجًا غربيًا خالصًا، بل هي نتاج نضالات إنسانية مستمرة، وينبغي للعرب أن يتبنوا نموذجهم الخاص الذي يتلاءم مع هويتهم وثقافتهم وتطلعاتهم.
تحصين الديمقراطية من الشعبوية والتلاعب السياسي
تحذر الوثيقة من المخاطر التي تواجه الديمقراطية حتى في معاقلها التقليدية، مثل صعود التيارات الشعبوية التي تستغل آليات الديمقراطية نفسها للوصول إلى السلطة ثم تفريغها من مضمونها. ولذلك، تدعو إلى تطوير آليات قانونية ومؤسسية تحمي الديمقراطية من الفساد والاستغلال، لا سيما في ظل التطورات التكنولوجية التي سمحت بتعزيز الاستبداد بطرق غير مسبوقة.
أخيراً: نحو مشروع عربي ديمقراطي
تمثل وثيقة العهد الديمقراطي العربي دعوة صريحة إلى تجاوز الانقسامات الأيديولوجية، والتركيز على الصراع الحقيقي بين الديمقراطية والاستبداد. فهي تؤكد أن الانقسامات القديمة بين الإسلاميين والعلمانيين، أو بين القوميين والوطنيين، لم تعد ذات جدوى، وأن المعركة الحقيقية هي معركة تحرر سياسي واجتماعي ضد أنظمة القمع والفساد.
في رأيي أن الوثيقة ليست مجرد وثيقة نظرية، بل هي بمثابة خارطة طريق لبناء فضاء عربي جديد، تكون فيه الدولة في خدمة المواطن، والسياسة في خدمة الحرية، والثروة في خدمة العدالة. فإذا كان الاستبداد قد ربح معارك كثيرة، فإن الشعوب هي التي ستربح الحرب في النهاية، وفقًا لما جاء في ختام الوثيقة: “حتى لو ربح الاستبداد المحلي والعالمي ألف معركة، نحن من سنربح الحرب.”