الديمقراطية اليوم كأحد أهم تجليات العقل السياسي البشري تمثلُ النقيض الموضوعي للاستبداد بكل أشكاله وألوانه، والديمقراطية اليوم ليست خياراً ترفياً وإنما هي خيار استراتيجي وجودي للمجتمعات الحرة، فكيف بمجتمعاتنا العربية التي افقدها الاستبداد حضورها ومكانتها الوازنة بين الأمم، لما ترتب على أنظمة الاستبداد من خراب للعمران والإنسان على حد سواء و على مدى نصف قرن من إعلان قيام دولة الاستقلال الوطنية.

و ها نحن نقف اليوم بعد حصاد عشر سنوات مريرة من الحروب الأهلية التي تم تخليقها في وجه التحول الديمقراطي الذي أتت به ثورات الربيع العربي الديمقراطي السلمية، التي مثلت لحظة فارقة في بنية الاجتماع السياسي العربي، المبني على ثنائية الاستبداد والاستعمار، حيث لم يغادر الاستعمار عالمنا العربي إلا بعد أن ضمن أنظمة استبدادية تحمي مصالحه وتكبيل إرادة الإنسان العربي، وتبقيه أسيراً  لاحتياجاته الحياتية التي لا تسمح له بالتفكير خارج هذه الدائرة الضيقة، التي تجعل من التفكير بالحرية والكرامة شيءً ترفياً هم في غنى عنه.

وإنطلاقاً اليوم من أهمية استئناف المسار الديمقراطي العربي وأهمية وجود إطار ديمقراطي عربي تداعت جماعة من المفكرين والسياسيين والمثقفين والناشطين العرب للقيام بمهمة الاستئناف الديمقراطي هذا  وتعزيز هذا المسار في العالم العربي كمظلة نضالية تعمل في صالح تبيئة العمل الديمقراطي وتعزيز هذا نضالات الديمقراطيين العرب والدفع به نحو أفق أوسع من الحضور والنقاش والتفاكر في ظل التراجع الكبير في هامس الحقوق والحريات المدنية والديمقراطية في عالمنا العربي والغربي عموماً.

فالديمقراطية هي خيار استراتيجي في مواجهة الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي وكلاهما وجهاً لعملة واحدة ولا يمكن مواجهة الطرفين بدون سلاح الديمقراطية التي تشكل نقطة ارتكاز مهمة في نضالنا في سبيل الحرية والكرامة والمساواة حيث تمثل الديمقراطية اليوم مدخلاً مهماً في تفكيك بنية الاستبداد وإعادة بناء مجتمعات حرة وفقاً لثقافتها وخصوصياتها التي تقتضي تجريم كل أشكال العنف والاحتراب الأهلي والطائفي في هذه المجتمعات.

ولهذا كله جاءت وثيقة العهد الديمقراطي العربي، لتعزيز كل هذه القيم والمبادئ وتبحث في مكنون تراث وثقافة عالمنا العربي الذي لم يكن بدعاً من الأمر في مسار الديمقراطية وجذورها التأسيسية وتركز الوثيقة على جملة أفكار جوهرية في هذا المسار و التي تأتي في مقدمتها أن الديمقراطية أداة فاعلة لتحقيق العدالة الاجتماعية أولاً والخلاص من ثالوث الفقر والجهل والمرض الذي يحاصر مجتمعاتنا التي تختلف أولوياتها عن أولويات ديمقراطية أوروبا الليبرالية.

إن الديمقراطية أداة فاعلة لتحقيق فضاء تضامني العربي واسع يفخر فيها العربي بتاريخه وتراثه وإسهاماته الحضارية في تاريخ البشرية وأن الفرز الحاصل اليوم في المنطقة لم يعد سوى بين ديمقراطيين واستبداديين ولم يعد بين راجعيين وتقدمين وعلمانيين وإسلاميين، الاستبداد هو أم الآفات كلها التي تعانيها منطقتنا من التبعية والفساد والانعزالية بينما الديمقراطية هي منبع الحرية والعدالة والكرامة والاستقلال.

ترفض وثيقة العهد الديمقراطي أيضا الخلط بين الأنظمة الغربية التي تدعم دولة الكيان الصهيوني والأنظمة العربية الاستبدادية وبين النظام الديمقراطي كمنظومة قيم وأفكار، كما تقدر الوثيقة تقديراً عالياً القوى الديمقراطية المدنية في الغرب التي وقفت إلى جانب غزة في الوقت الذي صمتت فيه الشعوب العربية والإسلامية بفعل أنظمتها الاستبدادية التي تقمع وتمنع كل مظاهر التضامن مع غزة وفلسطين عموماً.

وختاماً، إن ما تمر به منطقتنا العربية من تحولات كبيرة بدءاً بطوفان الأقصى مروراً بسقوط أقذر نظام أقلوي استبدادي كان جاثم على سوريا الحبيبة مروراً بالخرطوم وغدا صنعاء التي هي على موعد مع التحرير، فإننا ندعو كل القوى العربية الديمقراطية لتكامل الجهود في سبيل عمل ديمقراطي عربي موحد يستفيد من تحولات المنطقة والعمل عليها لتخليق مسار ديمقراطي عربي يستعيد به المواطن العربي حريته وكرامته واستقلاله.

نبيل البكيري | كاتب وباحث يمني

Share