تعبت أصوات النخبة العربية النبيلة طوال قرن مضى في محاولة إقناع الجمهور العربي بضرورة توطين الديمقراطية في العالم العربي، في محاولة لإقامة أوطان تليق بأبنائها، وتحفظ كرامتهم، وتسمح بتحقيق طموحاتهم، وتحمي مقدراتهم من عبث القريب والغريب. لكن حجم العوائق ومستوى الممانعة أمام هذه الدعوة كانا أكبر من إمكانات المؤمنين بالديمقراطية على تحقيق مشروعهم.

كانت هذه النخبة النبيلة أشبه بنوح وهو يخاطب قومه محبطاً: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وكانت ثورات الربيع العربي هي آخر محاولة عظيمة وجادة لتحقيق هذا الحلم، قامت بها شريحة من الشعوب العربية نفسها، لولا أن خصوم التغيير وأنصار الاستبداد كانوا أكثر وأمكن فأجهضوا الحلم وقرروا تحويله إلى كابوس.

وبرغم انتصارهم الذي يبدو ساحقا إلا أن خصوم الديمقراطية في قرارة أنفسهم يدركون أن ما بعد الربيع العربي ليس كما قبله. وأن مكر التاريخ (مكر الله) أكبر من مكرهم. وأن الشعوب كالقطط لها سبعة أرواح، وأن عودة الحلم مسألة وقت ليس إلا. لكنهم – بعقلية اللص القاتل يحاولون تأجيل موعده، وذلك أقصى طموحهم. ومن بين الأرواح السبعة لحلم الديمقراطية العربية يأتي “المجلس العربي” بنشاطاته الهادفة لمراكمة النضال في سبيل الديمقراطية.

وكان المجلس قد عقد مؤتمره الثاني في أكتوبر من العام الماضي تحت عنوان ” العهد الديمقراطي العربي: خارطة طريق للديمقراطية العربية”. انتهى المؤتمرون فيه – وهم نخبة من مثقفي وسياسيي وناشطي العالم العربي – إلى وثيقة تاريخية سميت بـ”وثيقة العهد الديمقراطي العربي- سراييفو 2024″. أصفها بـ”التاريخية” لاعتقادي أن التاريخ لن يتجاهلها في المستقبل وذلك لاعتبارين على الأقل: الأول أنها صادرة عن مجلس يمثل الامتداد الشرعي لثورات الشعوب العربية. والآخر أنها قدمت خارطة طريق مبدئية لإنشاء تحالف ديمقراطي عربي. وسأشير هنا إلى نقطتين تميزان هذه الخارطة المبدئية:

الأولى: أنها تعطي الأولوية للديمقراطية الاجتماعية لا للديمقراطية الليبرالية. أي أنها تعطي الأولوية لتحقق العدالة في توزيع الثروات الوطنية، لا للدعوة إلى الحريات الفردية. وذلك لأن هذه الأخيرة كما قال البيان “لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا”، بالنظر إلى ما تعانيه مجتمعاتنا من مستويات كارثية في مجالات الصحة والغذاء والتعليم.

الأخرى: هي أنها أعادت النظر في فرز القوى المتصارعة على أساس جديد بالقول: “أن الفرز الحقيقي في النضال السياسي اليوم أصبح بين الديمقراطيين والاستبداديين، ولم يبق بين التقدميين والرجعيين، أو الإسلاميين والعلمانيين، أو القوميين والوطنيين. فالاستبداد يجسّد كل الآفات التي نحاربها: التبعية، والفساد، والانعزالية، ومواجهة قيمنا العربية والإسلامية”. إن توجيه الطاقات نحو تقويض الاستبداد لهو رأس الحكمة في هذه المرحلة، وما دون ذلك مجرد هدر للطاقات يذكر بجهود سيزيف في الأسطورة الإغريقية.

ومما يقوي الأمل بنجاح الجولة القادمة من النضال ضد الاستبداد هو أن بشائر خريفه قد بدأت في سوريا بعد شهور من إصدار هذه الوثيقة، وذلك بإسقاط الثوار السوريين لأعتى نظام حكم مستبد عرفته المنطقة لأكثر من نصف قرن، والحبل على الجرار كما يقولون.

أخيراً، يجدر القول أننا حين نسعى لإقامة أنظمة ديمقراطية حاكمة في العالم العربي، فإننا بذلك لا نسعى لاستيراد منتج أجنبي غريب عن الوجدان والتاريخ العربي كما يروج البعض ويظن، وإنما نسعى لاستعادة منتج عربي شرقي أصيل استعاره الأجنبي منا.

فالديمقراطية – كغيرها من منتجات الحضارة – بدأت بواكيرها الأولى في شبه جزيرة العرب قبل حوالي أربعة آلاف سنة. هناك في بلاد الرافدين والشام نشأت “ديمقراطية المجالس”، وهي أول أشكال العمل الديمقراطي كما يقول جون كين في كتاب “موجز تاريخ الديمقراطية”. ومن هناك انتقلت التجربة إلى الساحل الفينيقي اللبناني، قبل أن تأخذ طريقها إلى أرض اليونان. ولو أن العرب أعادوا قراءة تاريخهم بناء على تصنيف جديد لمفهومها، كالتصنيف الذي قدمه جون كين في كتابه سالف الذكر لتبين لهم كم ظلموا أنفسهم حين ظنوا أن الديمقراطية نبتة أجنبية غريبة عن واقعنا العربي والإسلامي.

عصام القيسي | كاتب وباحث يمني

Share