قبل أربع سنوات من الآن، اندلعت ثورات الربيع العربي، وكان ذلك إيذاناً بسطوع شمس الحرية على منطقة ظلّت لعقود طويلة ترزح تحت وطأة أنظمة مستبدّة.
يتذكر العالم الحشود البشرية الكبيرة التي ملأت ساحات وشوارع دول الربيع بإعجاب وتقدير كبيرين، فقد كانت تطالب بالتغيير سلمياً، وكانت تموج بالفرح والأمل. في تلك الأثناء، كان صوت العنف يزداد تضاؤلاً، وشهدت الجماعات التي تتبنى العنف والإرهاب تراجعاً كبيراً، إذ لم يعد بمقدورها الدفاع عن وجهة نظرها القائلة بصعوبة إحداث أي تغيير بغير طريق القوة والعنف.
يمكن القول إن ثورات الربيع العربي أعادت الاعتبار للنضال المدني السلمي. وبالنسبة لليمن، يبدو الأمر أكثر أهمية، فقد شكّلت سلمية ثورة فبراير ضد نظام علي عبد الله صالح حدثاً كبيراً للغاية، فقد ظلت الثورة اليمنية تتمسك بخياراتها السلمية رغم كل محاولات نظام صالح جرها للعنف، وكان هذا الخيار هو الأنسب، فلم يكن من السهل تخلي صالح عن السلطة لو كان هناك عنف وعنف مضاد.
لقد كشفت سلمية ثورة فبراير زيف وكذب نظام علي عبد الله صالح الذي قام بتصدير صورة غير حقيقية للمجتمع اليمني لتبرير هروبه من استحقاقات الإصلاح السياسي، فكان المواطن اليمني هو الوحيد في العالم الذي تقوم سلطات بلاده بتشويهه واتهامه بالإرهاب، وتحريض حكومات العالم على اتخاذ تدابير عقابية ضده دون شعور بأدنى مستوى من المسؤولية.
“كشفت سلمية ثورة فبراير زيف وكذب نظام علي عبد الله صالح الذي كان يحرّض ضد شعبه”
اندفع اليمنيون في مشروع التغيير السلمي، ولم ينجح سيناريو عسكرة الثورة على الرغم من المحاولات المتكررة التي هدفت لتحويل الثورة لصراع قبلي أو مناطقي دموي، وبدأ الجميع الانخراط في تأسيس دولة جديدة، قائمة على أسس المواطنة المتساوية وسيادة القانون والمشاركة السياسية، وفي هذا الإطار جاء عقد مؤتمر حوار وطني ضم كل الأطياف السياسية والمناطقية.
لكن مشروع التغيير السلمي الذي تبنته الثورة وطلاب الجامعات والشباب الحالم بدولة عادلة، تعرّض لانتكاسة على أيدي الجماعات الميليشياوية التي تتبنى العنف لإحداث التغييرات التي تتناسب مع مصالحها الضيقة.
لدينا اليوم جماعات مسلحة تتصارع في ما بينها من أجل الهيمنة على مقدرات اليمنيين، مستغلة تردي أوضاع مؤسسات الدولة لفرض خياراتها ومعتقداتها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحقق أي درجة من درجات سلام مجتمعي حقيقي.
في سياق الانقلاب على سلمية ثورة 2011، يحرص الحوثيون على تصوير اجتياحهم لصنعاء بقوة السلاح على أنه ثورة، وهو ما يشير إلى طبيعة المرحلة الراهنة المتمثلة في نزوعهم إلى العنف واستخدامهم للسلاح بهدف فرض مشيئتهم.
ولا شك أن تنظيم القاعدة، الذي لا يحظى بأية شعبية في اليمن، يعمل جاهداً للاستفادة من تمدّد الحوثيين العسكري لإعادة غسل سمعته وتكوين شعبية له من خلال مواجهته للحوثيين تحت شعارات مضللة.
كان بإمكان الحوثيين التحوّل لقوة جماهيرية وسياسية هائلة، لكن فرضهم لخيارات العنف والحرب على الدولة والمجتمع شكّلت ردة أخلاقية ووطنية ضدهم. وبالإضافة لذلك، فإن هذه الخيارات البائسة سوف تضطر اليمنيين للكفر بالعمل السياسي والانضواء تحت مشاريع العنف القائمة هنا وهناك، وهو الأمر الذي لا يستحقه الشعب اليمني الذي يتطلع لحياة طبيعية ومستقرة مثل بقية شعوب العالم.
الحقيقة أن كثيرين يوجهون انتقادات للربيع العربي على تبنيه خيارات السلمية والتسامح، ويعتبرون ذلك نقطة ضعف أدت لصعود القوى القديمة والمتطرفة من جديد، لكن هذه الانتقادات تتجاهل أن هذه الوسيلة كانت الطريق الوحيد لقطع الصلة بين ماضٍ قائم على الانتقام والمحسوبية والعنف وبين مستقبل يجب أن يقوم على ما يناقض هذه القيم غير العادلة.
بعبارة مختصرة للغاية، السلمية والنضال المدني يقود للديمقراطية وسيادة القانون، أما العنف فلا يؤدي غالباً إلا لمزيد من العنف.
“السلمية والنضال المدني يقود للديمقراطية وسيادة القانون، أما العنف فلا يؤدي غالباً إلا لمزيد من العنف”
عندما ينتصر مشروع النضال السلمي، يزداد المواطنون ثقة بأنفسهم ويبدأون في البناء والتنمية، أما عندما ينتصر مشروع العنف سواء ذلك الذي يكون مصدره الحكومات أو مصدره الجماعات المناهضة لها، لا يكون هناك مواطنون، بل قتلة ومقتولين.
من أجل ذلك، لا يجب الاستسلام لليأس، والنكوص عن النضال السلمي مهما كانت التضحيات، فالثمن الذي سندفعه ونحن متمسكون بسلميتنا أقل بكثير من الثمن الذي سندفعه في حال قررنا أن نسلك طريق العنف.
لنتذكر دائماً أن خيارات وأدوات السلمية أكثر من خيارات وأدوات العنف، والأهم أن تأثيراتها إيجابية دائماً، فمنشور أو تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي يثير رعب حكومات وأنظمة كانت لوقت قريب تعتقد أن ما يحصل في العالم الافتراضي يظل افتراضياً، ولا يمكن أن يصبح حقيقة.
بإمكان الشباب العربي واليمني والذي يعد بحق بطل هذه المرحلة، أن يستمر في مسار التغيير السلمي، وأن يقاوم مشاعر الاحباط الناتجة عن الانتكاسات التي لحقت بالربيع، وليتذكر جيداً أن روح ثورات الربيع لا تزال بالقوة ذاتها، فلا أحد يمكنه أن يقبل بتأبيد السلطة، وخصوصاً أنه الأكثر إدراكاً للواقع وامتلاكاً للرؤى المستقبلية البنّاءة، والأقدر على استخدام تقنيات التكنولوجيا والانفتاح على العالم.
نعم، هناك عقبات كثيرة في الطريق، لكن النضال السلمي يجعلنا أكثر وفاءً للشهداء، واطمئناناً للمستقبل.